الأربعاء، 1 أبريل 2009

قصة قصيرة

صدى الذكريات

رغم أنه كان محاطاً ببناته الثلاث وأولاده الثمانية، محفوفاً بالرعاية و الحنان من زوجته المحبة، تحفهم جميعاً خضرة حديقة منزله الغناء، المطرزة بألوان شتى حبكتها أنامل الأزهار، و يشنف آذانهم تغريد البلابل و العصافير المنزلية. لكنه في لحظته تلك يسافر بعيداً مبحرا ًفي محيط الذكريات، مستعذباً صداها تارةً فتنفرج أساريره، و تعلو وجهه ابتسامة تنم عن برد سعادة غريب يغمر روحه و يشع من عينيه. ولا يلبث حتى يعلو الوجوم وجهه تارة أخرى، عاكساً ما يختلج في نفسه من حزن حين مرور خيال لمحات من تجارب شعورية حزينة جرت في واقع حياته، و استوطنت خياله في لحظته هذه.
و بمرور اللحظات أخذ صدى الذكريات يغلب على تردد أصوات العائلة وتغريد أطيار الحديقة، و أخذ صاحبنا يغوص متعمقاً في الذاكرة حتى وصل به خيال الواقع إلى حقيقة الماضي، فما لبث أن أخذ يتابع ذلك الفتا الصغير الذي لم يجاوز ربيعه السابع بعد و هو مليء بالحيوية و النشاط، يلهو و يمرح سحابة نهاره في محيطه الريفي البديع، مستأنساً بأخته الوحيدة، و يستمر أنسه بها بعد إيابه إلى المنزل بعد أن يودع آخر خيوط شمس الغروب الذهبية، و في كل ليلة ينام سعيد القلب قرير العين على عذوبة صوتها الحنون، بل إنه يشاركها اللعب و المرح حتى في أحلامه، التي تكاد تكون حصريةً عليها. كانت أخته الحبيبة كل حياته الطفولية بحيث ينتهي المدى عنده عند قدميها و إن بعد المدى فلا يتعدى مسافة صدى صوتها. كانت تكبره ببضع سنين لكن قلبها الحاني كان أكبر من ذلك بكثير، بحيث كانت أمومتها تنافس إلى حد بعيد أمومة أمه الرءوم. بدت له الحياة نعيماً مقيماً رغم ما يشوبها من ألم بعد والده و أخاه الأكبر عنه.
لم ير الصغير الجانب المحزن من هذه الحياة بعد، لكنه سرعان ما تعرف عليه في صورة من أقسى صوره، لقد خطفت يد المنون بمشيئة الله أخته الوحيدة و أنيسة وحشته رغم رجائه اليائس و صرخاته الحرى التي كان يرددها " يا رب لا تخليها تموت يا رب لا تخليها تموت"، كان يرددها و هو يتقافز كالطائر المذبوح.
لفترة ليست بالقصيرة كان لا يريد تصديق ما حدث، مع معاناة ينوء بها كاهل كيانه الصغير، فلا يستطيع لها تحملاً و ليس لديه حيلة ليتخلص من براثنها، كان يهيم على وجهه بين الحقول لا يلوي على شيء، لعل طيف أخته يلوح له، و لربما خاطب هذا الطيف ومرح معه، فيكون للحظات برداً و سلاماً على قلبه الصغير، لكن الأطياف للطافتها لا تدوم طويلاً فيفيق في كل مرة على الحقيقة المرة، التي يتذوق مرارتها فؤاده قبل أحساسه. ظلت هذه حاله، رغم محاولة الأم الثكلى إذابة أحزانها في محيط حنانها على هذا الصغير المسكين، مستميتةً في جهودها لتسليته، حتى أنها كادت توقف وقتها كله على شأنه، رغم حاجتها للجهد و الوقت، و رغم أنها هي بدورها أشد ما تكون حاجة للعطف و الحنان و الدعم النفسي، فلله درها كيف تحملت و صبرت، و كيف لم تذهب نفسها على ابنتها حسرات، رغم تمتعها بالأحاسيس المرهفة، و رغم ما كانت تشكله لها ابنتها العزيزة من تعويض، فقد كانت ترى فيها أماً رءومة رغم أنها ابنتها، فقد كان لسان حالها يردد دائماً لقد عوضني الله بابنتي الرحيمة عن حنان أمي و والدي اللذان فقدتهما في صغري.
مع مرور الأيام كان عليه أن يدرك و يتعلم، بل عليه أن يتأقلم مع حقيقة أنه أصبح وحيد أمه حيث كان يعيش معها في قرية حالمة تحيط بها أشجار اللوز إحاطة السوار بالمعصم، و تحفها المدرجات الزراعية الخضراء من كل جانب، في حين كانت تفصلهما مئات الكيلومترات عن أبيه و أخيه الأكبر المقيمان في مدينة بعيدة .
أخذ ذلك منه وقتاً طويلاً لكنه تغلب على آلامه، و تمكن مع الزمن من كبت ثورة و سورة بركان الحزن المتفجر في نفسه و كيانه كله، لكنه لم يتمكن من إخماده كليةً، فهو حي متقد، وقابل للتفجر في أي لحظة ضعف، فينبعث كأشد ما يكون، و كأن ذلك المصاب الجلل قد وقع للتو و اللحظة.
لم يستسلم الفتى للأحزان بل عوضه الله ثم حنان والدته بعزيمة لا تلين، و مثابرة كانتا مضرب المثل في قريته و القرى المجاورة، و عند جميع الأهل و الأقارب، كما أنعم عليه ربه بشعور يندر أن يوجد عند من كان في سنه من البنين و البنات، آلا و هو الشعور الدائم بالمسئولية تجاه والدته و نفسه، مما ولد لديه عصامية دفعته للتفوق الدراسي، و كسب المال الحلال في هذه السن المبكرة فقد كان يبيع و يشتري و ينمي دخله حتى بتربية الدجاج، و لقد كان سعيداً بما يدخره، فقد كان ما يجمعه من مال يفوق ما يصل إلى والدته من مصروف شهري من والده البعيد، بل كان يستمتع بشراء بعض الهدايا و الحاجيات التي يهديها من ثم لوالدته، و كان موفقاً في أحيان كثيرة في تلمسه لما تحتاجه.
واصل الفتى دراسته بإصرار رغم قسوة الحياة و رغم بعد المسافة و خطورة الطريق بين منزله و المدرسة، فقد كانت المدرسة تبعد بضعة كيلومترات عن المنزل، وكانت طريقاً جبلية تتلوى بين الصخور و الغابات الموحشة، و يزيدها وحشةً كون الضباب يغطيها لبضعة أشهر كل عام.
تواصل العمل و الادخار كما تواصلت الدراسة، وكبرت الطموحات و تبلورت بحصوله على الشهادة الثانوية،كل هذا بتوفيق من الله ثم من شمس تنير له الطريق، شمس هي في سطوع نورها و قمرا في حنان أشعتها،إنها والدته الحبيبة، تلك الإنسانة التي لا تفي صحائف المجلدات بما تستحقه من شكر و تقدير،أسأل الله العلي القدير أن يعطيها من نعيم الجنة حتى ترضى، و أن يتم عليها نعمته في الجنة برؤية وجهه الكريم.
لذهول الفتى و قد كان سنا نور والدته يحجب عنه ما عداه من أنوار، برزت يوماً في الأفق نجمة زاهرة لامعة درية في مظهرها، لكن لمعانها الأخاذ و خيوط أشعتها الماسية لامست قلبه قبل أن تلامس عينيه الذاهلتين، بل تسللت مباشرةً إلى سويداء قلبه، انتابه شعور غريب و كاد من الدهشة و دفء السعادة أن يطير، هام على وجهه هذه المرة بين الحقول الخضراء، لكن بأحاسيس مختلفة، لقوة تأثيرها و لتزاحمها و غرابتها بدا لبرهة من الزمن أمامها حيران عاجزاً عن التفكير، وما ساعده على تجميع شتات ذهنه أمام هذه الظاهرة الجديدة في حياته إلا أنه كان مغرما بقراءة المفيد من الكتب نثرا و شعراً، فأدرك أن حقيقة ثانية برزت في حياته، لكنها هذه المرة سعيدة و سعيدة جداً، إنها حقيقة الحب الشريف.
لم يتردد لحظة، و قد كان من طبعه و لا يزال الحزم، فقابل والد الفتاة و اتفق معه على كل شيء، حتى أدق التفاصيل، و من بعد استثمر وجود والده في القرية أثناء الإجازة الصيفية، و تمت الخطبة و حدد موعد الزواج، و ظهرت عصامية هذا الشاب، فقد تكفل بالمهر من مدخراته في هذه السن المبكرة، و تفضل والده الكريم و أصر أن يقوم بتكلفة الوليمة.
هذا الوالد الكريم الذي أجبرته ظروف الحياة أن يعيش موزع القلب بين معاناة ولده الأكبر المريض، الراقد لسنوات على السرير الأبيض ولقمة العيش من جهة و بين زوجته و ابنته و ولده الأصغر من جهة أخرى، عانا من الجهد في كسب الرزق ومن الحزن على فقد ابنته التي كانت تعني له الشيء الكثير.
كانت و لا تزال نعم الزوجة، فقد شاركته كفاحه على مدى الدراسة الجامعية ثم تحملت معه الغربة أثناء بعثته لتحضير درجة الدكتوراه، و واصلت معه مشوار الترقيات حتى أضحى أستاذاً جامعيا يشار إليه بالبنان.
جمعه الله بوالديه بعد رجوعه من البعثة، لكنهما كانا متقدمين في السن، فقابل الحقيقة الثالثة في حياته، و هي هذه المرة مشوبة بالحزن، و أحيانا بالندم، كونه ذهب إلى البعثة و لم يبق إلى جانبهما ليرعاهما، في حين فاز أخاه الأكبر بذلك، لكن عزاءه أنهما كانا راضيين عنه إن شاء الله. و مما يحزنه أن يد المنون قد هاجمته مرة أخرى و خطفت شمسه و قمره،بل سبب وجوده في هذه الحياة تباعاً، و كانت هذه الحقيقة الرابعة، و ما أشدها من حقيقة، و إن العين لتدمع و إن القلب ليحزن و ما نقول إلا ما يرضي ربنا و إن صاحبنا لفراقهما لمحزون.
و للهرب من هذه الحقيقة الرابعة و المحزنة جداً أخذ صاحبنا يستعرض حياته فصلاً فصلاً ، و يتابع تدرج حياة بناته و أولاده، منذ الطفولة حتى أصبح لبعضهم بنين و بنات، و هو يبتسم مع كل ابتسامة يتبسمها أحدهم و ينقبض قلبه و وجهه لكل ما يحزن أو يكدر أحدهم، بل إنه أخذ ينصت لسجل أصواتهم فيسليه ما كان منه بريئاً و طفولياً في صغرهم، و يشعره بالسعادة و الاعتزاز ما كان منها ينبض بالحكمة و حسن الخطاب في فتوتهم و شبابهم.
في حين كان صاحبنا يسبح في هذه الأصداء السحرية، أفاقه صوت عذب يقرع أذنيه بلطف و حنان " أبا ياسر اللي واخذ عقلك يتهنأ به" عندها لاحظ صاحبنا أن قدح الشاي الذي كان معداً له بعناية قد برد، و كان عليه أن يعتذر بلطف و يطلب قدحاً آخر.
إمضاء// أبو ياسر

هناك 4 تعليقات:

  1. قصة كفاح رائعة محزنة ولاكن هادفة، نهايتها سعيدة والعبرة بالنهاية...ارجو من الله عز وجل ان يديم عليك الصحة والعافية وان يجعل حياتك كلها هناء مع من تحب

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. نفس عصام سودت عصاما
    وعلمته الكر والإقداما
    وصيرته بطلاً هماما

    اشعر ان هذه الأبيات أصدق ابيات من الممكن ان تعبر عن حالك يا دكتور عبد الرحمن فبارك الله فيك وفي اهلك وابناءك

    محمد بن سحمان ابو هالة

    ردحذف