الأربعاء، 8 يوليو 2009

في رحاب العدل


بقلم صاحب السمو الملكي الامير / عمرو محمد الفيصل
في رحاب العدل

في الأسبوع الماضي زرت محكمة جدة العامة على مدى يومين، يوم الثلاثاء و يوم الأربعاء ، وذلك من ضمن جولات "اللقافة" التي تعودت عليها منذ فترة طويلة.
حضرت في أول يوم أمام بوابة المحكمة الساعة السابعة صباحا وبقيت واقفا أمامه حتى سمح لي العسكري بالدخول في الساعة السابعة و النصف حيث كنت و أحد الموظفين أول من دخلوا من تلك البوابة.
انطلقت على الفور لأرى من حضر من الموظفين في قاعة الصادر و الوارد فلم أجد إلا موظفي قسم محضري الخصوم. هؤلاء بأمانة أفضل الموظفين بالمحكمة من حيث التزامهم بمواعيد الدوام الرسمي فهم أول من يحضر و آخر من يخرج.
اتجهت بعد ذلك إلى مكتب رئيس المحكمة حتى أرى إن كان قد حضر خاصة أنه الرئيس وبالتالي القدوة لموظفيه. فلم أجده.
شاهدت جمعا من الموظفين أمام مكتب يوقعون على ورقة فهمت أنها ورقة الحضور. فتعجبت لأنهم لم يسمعوا فيما يبدو في تلك الإدارة عن اختراع اسمه جهاز تسجيل الحضور الآلي الذي يعمل بالبطاقات والآن يعمل بالبصمات ولكن لعلها بدعة غير مستحبة عندهم.
بعد أن يوقع الموظف يتجه ليس إلى مكتبه بل إلى البوفيه ليتناول وجبة الإفطار. وحيث إنني لم أكن قد أفطرت انضممت إليهم.
إنني أنصح من له معاملة بالمحكمة ألا يفوته سندوتش البيض عندهم فهو من ألذ السندوتشات التي أكلتها. أكلت "سندوتش" وكوبا من الشاي ثم توجهت مرة ثانية إلى مكتب رئيس المحكمة لعله يكون قد حضر ولكنه لم يحضر و كانت الساعة تشير إلى الثامنة.
بالمناسبة ، الدوام الرسمي في الدولة من الساعة 7:30 صباحا إلى الساعة 02:30 بعد الظهر. بحثت عن مدير المحكمة الإداري ولكن هو أيضا لم يحضر.
انطلقت إلى مكاتب القضاة لأرى ما يدور بها وحتى أشاهد آلية إقامة العدل في بلدنا الحبيب كمواطن يريد أن يتعرف على الأجهزة المختلفة التي تنظم حياته وكيف تعمل و بأية معايير وذلك بدافع من الفضول المفعم بالوطنية.
وصلت إلى أول مكتب. ولكن قبل هذا لا بد أن أصف الحالة العامة للمحكمة. إن المحكمة هي عبارة عن مجموعة من المباني المنتشرة في الموقع بشكل شبه عشوائي مرتبطة بعضها ببعض بطرق مشاة بعضها مبلط وبعضها تراب والبعض منها مظلل و الأغلب غير مظلل وبلا أي نوع من اللافتات الإرشادية التي تدل المراجع إلى مكان مكتب القاضي الذي يريده. لا أخفي عليكم أنني قد ضللت الطريق أكثر من مرة في جولاتي بتلك المحكمة. كما يسود مباني المحكمة وطرقاتها جو من الإهمال واللامبالاة تعكس بحق جو العمل السائد بداخلها.
على كل حال ، وصلت أول مبنى ودخلته ودخلت مكتب أول قاض فلم أجد أحدا ثم توجهت إلى المكتب الثاني ولم أجد إلا موظفا واحدا فسألته إن كان الشيخ قد حضر فأجاب بالنفي فطلبت جدول الجلسات لذلك اليوم فأجاب بأنه لم يستلمه حتى الآن لأن الموظف المسؤول لم يكن قد حضر بعد.
خرجت لأذهب إلى المبنى الثاني فلاحظت أحد القضاة قادم فنظرت إلى ساعتي فإذا هي الساعة 8:15. قد تستغربون أيها الإخوة و الأخوات لهذا الأمر ولكنني سألت أحدا عن هذا فقيل لي إنه لا بد للقاضي أن يكون في حالة من الراحة النفسية وشبعان نوم حتى يستطيع أن يحكم برحابة صدر وراحة بال كاملة.
المهم طفت على مكاتب كل القضاة ولم يحضر منهم غير ذاك الذي شاهدته فعدت إلى رئيس المحكمة وكانت الساعة التاسعة فوجدته قد وصل أخيرا وكذلك مدير الإدارة بالمحكمة الذي كان يقرأ الصحيفة ليتابع آخر مستجدات الأوضاع الدولية و المحلية.
عاودت طوافي على مكاتب القضاة وحتى الساعة العاشرة لم يحضر إلا تسعة منهم فقط من أصل 23 قاضيا. وعند كل قاض كنت أسأل كاتبه عن جدول جلسات ذلك القاضي في ذلك اليوم فأقرؤها منشورة على الباب وأول جلسة تبدأ في الساعة الثامنة صباحا إلا قاضياً واحدا خفيف الظل الذي جعل جلسته الأولى الساعة التاسعة والأخيرة في الساعة الحادية عشرة ، ثم لم يحضر أصلا.
وتعجبون أيها الإخوة و الأخوات كيف تستمر القضايا سنينا طويلة!
سألت أحد الكتبة "لماذا تضعون جدول جلسات القاضي تبدأ من الساعة الثامنة صباحا و أنتم تعلمون يقينا أنه لن يحضر قبل الساعة التاسعة والنصف ، هذا إن حضر؟" قال "إن هذا الجدول يأتي من آلة حاسبة وضعتها هيئة القضاء الأعلى" قلت "ولكن ما علاقة ذلك بالواقع؟" فقال "هذا من هيئة القضاء الأعلى!" يقصد بذلك أنها مجرد ورقة لا حاجة لأن تعكس الوضع الحقيقي فهل الهيئة لا تريد أن تعلم عن حقيقة ما هو حاصل؟ أم أن المحكمة بجدة لا تريد أن تخبرها بحقيقة الأوضاع؟ والكل راض و مبسوط وأهم من ذلك...باله مرتاح وأعصابه هادئة وهذا أمر مهم جدا في القاضي.
أما نحن المتخاصمين فأمامنا خياران هما الخليج العربي أو البحر الأحمر نشرب من أيهما نشاء حتى نرتوي.
خرجت من المحكمة لأقضي بعض مصالحي ثم عدت عند وقت الصلاة لأصلي في المسجد المتاخم للمحكمة.
لقد صليت في مساجد كثيرة وفي العادة لا يكاد الإمام ينتهي من التسليمة الثانية حتى يتدافع المصلين على الأبواب للخروج وكأن عفاريت من الجن تطاردهم أما في هذا المسجد فالإمام يسلم ولا أحد يتحرك ويظلون يسبحون بهدوء ووقار ثم يتسننون بتأن وخشوع لم أر في حياتي أناسا أكثر تعلقا بالمسجد مثل هؤلاء. لقد أثلج صدري حين أدركت مدى التقوى و الإيمان الذي يتحلى به كل موظف بالمحكمة من أصغرهم إلى أكبرهم.
عند نهاية الصلاة أسرعت مرة أخرى إلى المحكمة لأرى من من الموظفين سيعود إلى مكتبه وإن كان القضاة قد تواجدوا فعلا في المحكمة بعد أن تركتها في الساعة العاشرة.
لم يحضر في ذلك اليوم كما ذكرت سابقا أكثر من القضاة التسعة الذين حضروا قبل أن أذهب.
في اليوم الثاني ، أي يوم الأربعاء ، كررت نفس ما فعلته في اليوم الماضي فوجدت شخصا راكنا سيارته بحيث يصعب علي الركن أمام بوابة المحكمة فطلبت منه أن يتقدم قليلا حتى أتمكن من الوقوف فقال "انتظر قليلا فأنا سأدخل لأوقع ثم سأنصرف" وفعلا دخل المحكمة ثم خرج وركب سيارته وهم بالذهاب فسألته "هل أنت موظف هنا" قال "نعم" ثم ذهب فأوقفت سيارتي أمام البوابة و أنا مرتاح.
أظن أنني فيما يبدو قد أصبت القاضي الذي جاء الساعة الثامنة بالأمس فلم يحضر في اليوم الثاني بالرغم من أن جدوله كان يبدأ من الساعة التاسعة صباحا هذه المرة.
على العموم لم يحضر أكثر من ثمانية قضاة في ذلك اليوم.
اللطيف في المسألة أنه إذا تأخر القاضي أو تغيب فهذا يعني تغيير موعد النظر في قضية ما ربما لعدة أشهر أما الخصوم فلا بد لهم من الحضور من الساعة الثامنة فيحضرون مثل التلاميذ بالمدرسة فإن تأخروا ولو عشر دقائق تشطب دعوتهم حتى إن كان الكل يعلم أن القاضي لن يحضر قبل الساعة التاسعة والنصف أو عشرة صباحا.
صليت في مسجد المحكمة كما فعلت في اليوم الماضي وهذه المرة التفت الإمام بعد الصلاة ، بالمناسبة الإمام في هذا المسجد هو رئيس المحكمة ، وألقى محاضرة جميلة انتقد فيها ما بدر من أحد المصلين - الذي فيما يبدو نسي أن يغلق جواله فرن أثناء الصلاة وبرنة هي مقطع من إحدى الأغاني المعروفة - وشدد على خطورة الاستماع إلى الموسيقى على المجتمع. والكل كان ينصت لذلك الإمام الفاضل بطبيعة الحال. خرجت بعد ذلك لأتأكد أن عدد القضاة الحاضرين لم يتغير - كلهم حضروا الساعة التاسعة والنصف هذه المرة - فوجدت أن بالفعل عددهم لم يتجاوز الثمانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق